مقال/ الاستاذ عادل الخزاعي مدير المرصد العراقي للحقوق والحريات
إقصاء السنة بالشرق الأوسط لم يعد ذو قيمة استراتيجية مهمة وعميقة كما كان قبل وبعد حادث برج التجارة العالمي،
إقصاء المكوّن السني في الشرق الأوسط لم يعد خيارًا استراتيجيًا كما كان يُنظر إليه في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين وُضع الإسلام السني في خانة التهديد العالمي، وأُعيد رسم خرائط النفوذ بما يخدم قوى إقليمية ودولية تحت شعار “الحرب على الإرهاب”. في تلك المرحلة، شجّع الغرب، خصوصًا التيارات اليسارية المؤثرة في أوروبا والولايات المتحدة، على خلق حاجز ديموغرافي شيعي يمتد من طهران إلى بيروت، بحيث يشكل خطًا عازلًا بين الشرق الأوسط السني وأوروبا. كان الهدف غير المعلن هو التحكم بتدفقات الهجرة، وضبط حركة الإسلام السني، ومنع أي كيان عربي قوي من الوصول إلى تخوم القارة الأوروبية.
لكن هذا المخطط فشل فشلًا ذريعًا. فإيران، التي استُخدمت كأداة لتنفيذ هذا المشروع، استغلت الظرف التاريخي لتوسيع نفوذها، وتحويل ذلك “الحاجز” إلى منصة للتمدد العقائدي والعسكري، ليس فقط لمواجهة السنة في المنطقة، بل لمناكفة الغرب ذاته، وتهديد مصالحه، ومهاجمة إسرائيل عبر ميليشيات متعددة الجنسيات. وبذلك، انقلب السحر على الساحر: فبدلًا من أن يكون الهلال الشيعي أداة لضبط المنطقة، أصبح رأس حربة في مشروع ولاية الفقيه الذي يسعى إلى فرض نظام ثيوقراطي عابر للحدود، متكئًا على المال السياسي، والميليشيات المسلحة، وشبكات اقتصادية عميقة تغلغلت حتى في العواصم الغربية.
خلال عقدين من هذا النهج، تحولت مناطق مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن إلى ساحات نفوذ إيراني، فيما استُبعدت القوى السنية عن أي مشاركة حقيقية في القرار. هذا الإقصاء خلق فراغًا خطيرًا، وفتح الباب أمام صراعات داخلية استنزفت المجتمعات، وأنتجت تنظيمات متطرفة استُخدمت لاحقًا كذريعة إضافية للتدخل الأجنبي. النتيجة النهائية كانت شرق أوسط ممزق، لا يُنتج سوى موجات هجرة، وحروب وكالات، وانهيارات اقتصادية، فيما تآكل الدور الأمريكي التقليدي، وأصبحت إسرائيل محاصرة بميليشيات شيعية مسلحة أكثر من أي وقت مضى.
اليوم، هناك إدراك متنامٍ لدى مراكز القرار الدولية بأن استمرار هذه السياسة كارثة استراتيجية. لقد بلغ المشروع الإيراني ذروته، لكنه في الوقت نفسه أصبح عبئًا على الغرب والعالم. إيران لم تكتفِ بخلق منطقة نفوذ خاصة بها، بل بدأت بمحاولة قلب الطاولة على الجميع، مستخدمة خطاب “محاربة الاستكبار العالمي” لتبرير سيطرتها على العواصم العربية، وهجماتها على إسرائيل، وتهديدها للملاحة الدولية. هذا السلوك لم يعد يُحتمل، ويدفع القوى الكبرى إلى البحث عن صيغة جديدة لإعادة التوازن.
إعادة الاعتبار للقوة السنية في المنطقة لم تعد مجرد فكرة إصلاحية، بل أصبحت ضرورة استراتيجية. فالسنة هم الامتداد الديموغرافي الأكبر، ووجودهم هو الضمان الحقيقي لاستقرار الشرق الأوسط. تهميشهم لم ينتج إلا التطرف والفوضى، بينما دمجهم في معادلة القوة سيعيد التوازن الطبيعي، ويقوض جذور الطائفية التي غذّت النزاعات طوال العقدين الماضيين. هذا المشروع لا يمكن أن ينجح من دون اتفاق دولي عميق، تتشارك فيه الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية المركزية، وبالطبع إسرائيل، التي تدرك أن أمنها لن يتحقق عبر محيط مشتعل بالفوضى والميليشيات، بل من خلال استقرار شامل تقوده قوة سنية قادرة على ضبط الحدود ومواجهة التطرف.
الاتفاق مع إسرائيل ليس خيانة ولا تطبيعًا مجانيًا، بل خطوة عقلانية لإعادة هندسة المنطقة. فإسرائيل، رغم قوتها العسكرية، تعاني من استنزاف دائم في ظل تهديدات حزب الله والحشد الشعبي والحوثيين. في المقابل، تدرك القوى السنية أن مشروعها لن يكتمل دون ضمانات دولية، بما في ذلك من تل أبيب، لتفكيك الميليشيات، وإعادة بناء مؤسسات الدولة في العراق وسوريا واليمن على أسس وطنية جامعة.
هذه الرؤية لا تقوم على “توازن الرعب”، كما كان الحال في القرن العشرين، بل على “توازن المصالح”. فإذا نجحت القوى الكبرى في وضع إطار سياسي وأمني واقتصادي يضمن حقوق جميع المكونات، ويعيد للسنة دورهم الطبيعي، فإن المنطقة يمكن أن تدخل مرحلة استقرار قد تمتد لخمسمائة عام، على غرار ما حدث في أوروبا بعد مؤتمر فيينا عام 1815 الذي أنهى الحروب النابليونية، وأسس لنظام استمر قرنًا تقريبًا.
العراق سيكون قلب هذا التحول. فهو ساحة الصراع الكبرى، ومفتاح التوازن بين السنة والشيعة، وبين العرب وإيران. إذا تمكن العراق من الانتقال إلى دولة وطنية قوية، خالية من الميليشيات، فإنه سيشكل الضربة القاضية للمشروع الإيراني، ويفتح الباب لإعادة تشكيل سوريا ولبنان واليمن. أما إذا ظل العراق أسيرًا للتبعية، فإن أي مشروع استقرار سيظل مجرد وهم.
إن العالم اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يستمر في سياسة إدارة الأزمات، فيترك الشرق الأوسط ينزف، أو أن يتخذ قرارًا تاريخيًا بإعادة تمكين القوة السنية، وإنهاء النفوذ الإيراني. الخيار الثاني ليس فقط مصلحة للعرب، بل مصلحة للغرب وإسرائيل والعالم بأسره. فشرق أوسط مستقر يعني خطوط طاقة آمنة، وتراجع موجات الهجرة، وانحسار التطرف. أما استمرار الفوضى، فسيجعل المنطقة بؤرة دائمة للصراع، تهدد الأمن الدولي لعقود قادمة.
لقد حانت لحظة الحقيقة. وعلى صناع القرار أن يدركوا أن المشروع الإيراني، الذي وُلد من رحم اليسار العالمي كأداة هندسة ديموغرافية، أصبح الآن وحشًا يهدد الجميع. ولا سبيل للقضاء عليه إلا بعودة القوة السنية، لا كخصم، بل كشريك في مشروع إقليمي يضمن السلام والتنمية، ويطوي صفحة قرنين من الدماء.
